-->
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

الحاضر وبعض ملامح المستقبل

علم النفس: الحاضر وبعض ملامح المستقبل د. طه النعمة




لو شئنا الإجابة على السؤال الآتي: أين هو علم النفس الآن، وهل بمقدورنا استراق لمحة على ما يمكن أن يكون عليه مستقبله؟ فإننا يمكن أن نبدأ من هذه النقطة ؛ ما الذي يجعل من نظرية ما نظرية جيدة؟ واستطراداً، ما هي النظريات المرشحة، أكثر من غيرها، للاستمرار والبقاء؟ هناك، كما لا يخفى، العديد من الإجابات على مثل هذه التساؤلات، وغالبيتها تؤكد على ضرورة أن تكون النظرية، خصوصاً في علم النفس، قابلة للتطبيق في المجال الذي تتناوله. ويوضح البعض ذلك بالقول إن كان العلم يعني المعرفة واكتساب القدرة على الفهم وما شاكل ذلك، يصبح من الصعب تصور علم للسلوك لا يعين دارسه على استخدام معرفته وفهمه في التوصل إلى حلول لمعاضل بعينها.

يمكن القول إن النظرية الجيدة يجب أن تتوفر فيها، إضافة إلى هذه السمة، السمات الآتية:
- أن تكون لها القدرة على التفسير والتوضيح، وجودتها تتناسب طردياً مع اتساع المجالات التي تتناولها بالتفسير والإيضاح.
- أن تكون قادرة على توقع قضايا مبتكرة لم تتوصل إليها النظريات التي سبقتها.
- أن تكون متماسكة ومتناغمة مع نفسها داخلياً ومع غيرها من النظريات خارجياً.
- أن تكون ذات أفق واسع، وأن تمتد إلى أبعد من الملاحظات والقوانين والنظريات الفرعية التي صممت أساساً لتفسيرها.
- أن تكون النتائج التي تخمنها متوافقة مع نتائج التجارب والملاحظات القائمة.
غني عن البيان أن نظريات علم النفس المعاصرة، عموماً، تتطابق على الأقل في نقطة واحدة، هي ؛ إن أي منها لا تتوفر فيها جميع السمات المذكورة آنفاً. كل واحدة منها تفتقر إلى هذه السمة أو تلك، إلا أن ذلك لم يحل دون استمرار أي منها، ولم يحدّ من إمكانية الاستعانة بها لفهم هذا السلوك أو ذاك، أو في استخدامها للتعامل مع هذه المعضلة أو تلك. لذا من الممكن أن تبرز، في المستقبل، أفكار أو نظريات جديدة أو معدلة لنظريات قائمة، ولكن من غير المتوقع أن تزول النظريات القائمة قريباً.
من ناحية أخرى فإن التساؤلات الأساسية التي لاحقت علوم الإنسان عموماً وعلم النفس خصوصاً عقوداً طويلة، والتي تتمحور حول قدرتنا على التعاطي مع تلك العلوم بنفس الطريقة التي نتعاطى بها مع العلوم الطبيعية والصرفة أو إخضاعها لذات القوانين التي تخضع لها تلك العلوم، يرجح أن تبقى، على الأقل في المستقبل المنظور، مثيرة للمزيد من الجدال.

وأهم العوامل التي ستبقي ذلك الجدال حياً، هي:

أولاً، السياق التاريخي والفردي للحادثة النفسية، وكما يشير إلى ذلك ميرلو بونتي في أن ماهية الإنسان، ككل الظواهر التي نستقي منها معناها، لا نستطيع فصلها عن الحياة والتاريخ. وبما أن الخبرة التاريخية الفردية حدث تاريخي فريد ليس بالإمكان استعادته بكليته، فإن علم النفس، على الأقل في جانب منه، يمضي من الخاص إلى الخاص ومن العياني إلى العياني، بينما تمضي العلوم الطبيعية والصرفة من الخاص إلى العام ومن العياني وصولاً إلى المجرد. إذ من غير المتوقع أن تكوّن الحياة النفسية نظاماً من العناصر اللاشخصية التي يمكن مقارنتها بعناصر الطبيعة، فكل فعل إنساني له معنى وإن مهمة علم النفس الأساسية هي فهم هذا المعنى. وهذا يقودنا إلى أهمية منهج الفهم في دراسة العلوم السلوكية والاجتماعية، وهو فهم مرتبط بالقصدية التي تمكننا من تمييز الظواهر الإنسانية عن سائر الظواهر الطبيعية ؛ إذ ما معنى القول إننا نفهم سلوكاً معيناً؟ إن ذلك يعني إننا ندركه من الداخل، أي من خلال القصد الذي يحركه، وإدراك القصد يعني تأشير ما هو إنساني في هذا السلوك وهذا بالضبط ما يميزه عن أية ظاهرة طبيعية أخرى.

وحتى على مستوى علم الأحياء، كما يشير إلى ذلك أيان تاترسال، نحن نستطيع دراسة عمل الجزيئات الوراثية داخل كل خلية بواسطة الطرق العلمية التجريبية، ولكن ما لا نستطيع اختباره مباشرة بواسطة التجريب هو تاريخ هذه الجزيئات؛ كيف- على وجه التحديد- أصبحت على ما هي عليه؟ وكيف أمكن لصفاتها أن تتوزع في الطبيعة على النحو الذي نلاحظه الآن؟ هذه قضايا تخص التاريخ، وهذا التاريخ لا يمكن تكراره في المختبر. الباحثون التجريبيون يتخذون من توقعاتهم نقاط انطلاق لبحوثهم، ومن ثم يقارنون بين البيانات المتحصّلة وتلك التوقعات، كذلك تفعل العلوم التاريخية، ولكن الفارق في هذه الحالة أن التجربة قد أجريت في وقت مضى.

من الأفكار الرئيسية التي يؤكد عليها المتمسكون "بالحقائق العلمية الصلبة" في نقدهم بعض أطروحات العلوم التاريخية، استناداً إلى كارل بوبر، هي أن النظرية لن تكون علمية إن هي صيغت بطريقة لا تقبل "التكذيب". هذه الفكرة، كما يقول تاترسال، ليست سليمة تماماً في جوهرها، إذ إنها تدعو إلى التساؤل ؛ من أين تأتي الأفكار، جيدها ورديئها، ابتداءً ؟ وهل هناك قواعد مقننة للإبداع الإنساني؟ ويجيب ؛ بالطبع لا. فالعلم، كما هو حال كل مسعى إنساني، يعتمد على الفكر المبدع والحدس.

في هذا الإطار يقول أينشتاين: "إذا تفحصنا بدقة كيف نعثر على مفاهيم جديدة في العلم يتضح لنا أن مبادئ مثل قانون القصور الذاتي أو النظرية النسبية لا يمكن اختراعهما بأية طريقة علمية تقليدية، استدلالية كانت أو استقرائية، ولكن يتم ذلك فقط باستخدام قدر من الابتكار أو الخيال أو، في أحيان كثيرة، الحدس". لذلك فإن الخبرة العملية تثبت المرة تلو المرة أن التمسك "بالحقائق الصلبة"، دون القدرة على الإفادة من التعميمات العريضة والحدس، من شأنه أن يجعل أفكاراً مثل النسبية في الفيزياء والداروينية في الأحياء، فضلاً على الكثير من أطروحات علمي الأناسة والاجتماع، غير علمية.

ثانياً، صعوبة عزل وقع أو أثر الملاحظ أو الباحث عن الخبرة التي يلاحظها أو التجربة التي يجريها وإمكانية تأثر تأويلهما بخبراته وقناعاته المسبقة. فعلى خلاف ما يحدث في العلوم الأخرى، الملاحظ والباحث في علم النفس هما في أغلب الأحوال جزء لا يتجزأ من المنظومة الإخبارية.

ثالثاً، معضلة الوعي الإنساني ؛ إذ على الرغم من اعتقاد بعض الدارسين بأن الوقت قد حان للبحث عن الموصلات العلائقية العصبونية الخاصة بالوعي، كما يفعل جون اكلس، فإن دارسين آخرين، كروجر بنروز، لا زالوا يعتقدون أن الوعي أرض محرمة على دارسي السلوك. وبينما يقر اكلس، من جهته، بأن الوعي يقع خارج الكون المادي، إلا أن ذلك لا يحول دون تفاعله مع ذلك الكون أو أن يكون في حالة من التعاطي المتبادل معه. وجهة النظر هذه يطلق عليها اكلس المثنوية التفاعلية. والمثنوية، التي ترجع على الأقل إلى ديكارت، تضع الفهم الجدلي للوعي بعيداً عن متناول العلم. إلا أن اكلس يدعي أنه- من خلال مثنويتة التفاعلية- تمكن من تشخيص أو تعرف الموقع الفيزيقي والآلية الفيزيقية التي يؤثر فيها الوعي غير المادي على الدماغ المادي. فهو يرى أن المدخلات الاشتباكية إلى العصبونات الهرمية اللحائية هي التي يمكن أن تقع تحت تأثير الوعي، أي هي الموضع ( بنية وفعالية) الذي يمكن للوعي من خلاله التأثير في الدماغ. ووفق هذا الرأي، فإن معدل اندماج الحويصلات الاشتباكية مع الغلاف قبل الاشتباكي يمكن زيادته بواسطة الوعي بطريقة لا تمس الحاجة فيها سوى إلى تناوبات أو تعاقبات في معدل التنفيق (tunneling) الميكانيكي الكمي(1). من جهته يتقبل بنروز فكرة كون الوعي هو فعالية دماغية، إلا أنه يؤكد على أن النظريات الفيزيائية السائدة ليست كافية لإعطائنا فهماً مناسباً للوعي. وهو يعارض بشدة فكرة الذكاء الصنعي، مسنداً حجته إلى نظرية كيرت كودل، التي يرى أنها تبين على نحو واضح عدم جواز شمول الوعي الإنساني بأية عمليات محوسبة أو جبرية، فضلاً عن أن عمليات الوعي لا يمكن تفسيرها بواسطة قوانين الفيزياء الحالية أو التحاسب معها وفق تلك القوانين، سواء ما كان منها قوانين الفيزياء التقليدية أم قوانين فيزياء ميكانيكا الكم. ولكن باحثين عديدين من جميع أرجاء الطيف العلمي المهتم بسلوك الإنسان ينكبّون الآن على محاولة فهم الوعي الإنساني الشامل. والآراء في هذا المجال من التنوع والاتساع مما يستدعي أن يكون هناك مؤلف خاص بها.

التطورات المتوقعة

في جانب آخر تشهد ساحة علم النفس تطورات من المتوقع أن تترك بصمات واضحة على العلوم النفسية والسلوكية في المستقبل المنظور، إن لم تكن قد تركت بالفعل بعض تلك البصمات. أول وأهم تلك التطورات هو التقارب الحاصل بينها وبين العلوم الإحيائية، والذي يمكن ملاحظته في طائفة من المجالات من أبرزها:

أولاً، تعرف خارطة المورثات البشرية ( الجينوم البشري )، فقد أصبح لدينا منذ حزيران ( 2000 م) كتاب للشفرة الوراثية البشرية، ورغم أننا لازلنا بحاجة لفهم الكثير من معاني تلك الشفرة، إلا أن إحدى النتائج الأولية التي تم التوصل إليها هي أن مكونات الجينوم البشري لا تتعدى الثلاثين ألف جينة في مقابل حوالي مائة ألف جينة كان يعتقد بوجودها سابقاً. ويعادل ذلك ضعف ما تملكه ذبابة الفاكهة من جينات فقط، ولا يزيد سوى بثلاثمائة جينة عن تلك التي يحملها الفأر.

ويوضح هذا الرقم المتواضع بأننا، إن شئنا فهم السمات المركبة للكائن البشري، علينا البحث عن صيغ أكثر تركيباً وتعقيداً للدور الذي تؤديه الجينات وطريقة عملها خصوصاً في مجال السلوك. الأمر الذي يضعف الاعتقادات السائدة في إمكانية أن يكون سلوك معين محكوماً بجينة واحدة بعينها، فضلاً عن أن ذلك من شأنه أن يساعد، من جهة أخرى، على إمكانية تتبع مكونات السلوك على المستوى الجزيئي.

ثانياً، بحسب بلومان وزملائه فإن الدراسات الحديثة حول الأسرة والتوائم والتبني تظهر أن تأثيرات البيئة هي الأشد وقعاً على السلوك. إلا أننا لا زلنا لا نعرف سوى القليل عن التأثيرات النوعية للبيئة. لذا نحن بحاجة إلى المزيد من المعرفة حول الخبرات الفردية التي يمكن أن تؤدي، على مسار النماء، إلى إحداث الفروق. المثير إننا ربما كنا على أبواب الحصول على الخصائص الجينية النوعية التي يمكن أن تؤلف أسس معرفتنا حول هذه الخبرات. خصوصاً وأن التطورات الراهنة المتأتية من التقدم في علم الجينات الجزيئي تفيد بأن التأثيرات الجينية تحدث فقط بالاقتران مع التأثيرات البيئية، أو بواسطة الأفعال المتآزرة (co-actions) حسب تعبير كوتليب، فضلاً عن أن أنماط الأفعال المتآزرة تتغير عبر النماء، كما أنها غاية في الدينامية الاعتمالية وموسومة بتعاطي متبادل بين الخبرات الفردية والتأثيرات البيئية والجينية، وهذا التعاطي يتواصل على مختلف المستويات وبمختلف الوسائل. والحاجة إلى معرفة المحيط الذي يتم اختباره خلال النماء برزت بصورة خاصة بعد التقدم الذي تحقق على نقاط التماس بين علوم السلوك وعلم الأعصاب النمائي.

ثالثاً، يتضح أكثر فأكثر أن مسار العلاقات بين الدماغ والسلوك ذو اتجاهين، وهذه الحقيقة تبرز أكثر ما يكون خلال النماء المبكر، فالإنتاجية العالية للموصلات العصبونية والعقد الإشتباكية خلاله أدت إلى تقدير دور الخبرة في التأثير في تأسيس وإدامة وتشذيب المسارات العصبونية. وبحسب كرينوف وزملائه هناك نوعان من الخبرات التي تمس الحاجة لها لإسناد الموصلات العصبونية ذات العلاقة بالتكيف والمهيِأة إحيائياً، وقد أطلقوا على الأولى مترقبات أو متوقعات الخبرة (experience-expectant)، ومن أمثلتها العلاقة بالأم وبعض المدخلات البيئية المبكرة الضرورية لنماء قدرة الدماغ على الإبصار وكذلك بعض المدخلات الضرورية لنماء مستلزمات القدرات اللغوية. أما الثانية فهي توابع الخبرة أو تلك المعتمدة على الخبرة (experience-dependent)، كما هو حال المدخلات الخاصة بالعلاقة مع باقي أفراد الأسرة والخاصة بالتعلم والتي تؤثر في نماء الدماغ بطرق أكثر تنوعاً وأقل تحدداً بالتوقيتات.

وهذا أمر يستقيم مع الملاحظات النفسية التقليدية التي تؤكد على أهمية السنوات الأولى من عمر الإنسان، والتي، غالباً، ما يعتقد أنها تشكل الخطوط الأساسية لملامح الشخصية الراشدة: فما نتلقاه من الآخرين المهمين وما نتبادله معهم خلال سنوات حياتنا المبكرة يخترقنا ويستقر داخلنا دون أن نملك إزاءه رفضاً أو قبولاً، أو بحسب المفاهيم النفسية الشائعة، نستدمجه في معمار نفوسنا، أي أننا، في حقيقة الأمر، نستدمج أسرنا داخلنا ؛ أنساقاً وعمليات، عناصر مفردة ومجموعات، أشخاصاً ومفاهيم،، قيماً ورموز، تحيزات وعادات، وأنظمة وتقاليد. هذا الاستدماج التجريدي المُستقرأ يمكن أن يكتسب، الآن، بعداً عيانياً مادياً أيضاً، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن دماغ الإنسان يتألف، من قرابة المئة ألف مليون عصبونة، كل عصبونة عبارة عن معالج دقيق، إلا أن هذه المعالجات هائلة العدد ليس بمقدورها أداء وظائفها ما لم يتم توصيل بعضها ببعض. بعض تلك التوصيلات جاهزة منذ البدايات الأولى، أو كما يطلق عليها البعض التوصيلات العصبونية الراسخة، ولكن قسماً كبيراً من شبكة الموصلات يتم إنشاؤها في الفترة الواقعة بين ما يسمى بالولادة الطبيعية والولادة الاجتماعية، أي بين الانفصال عن رحم الأم والانفصال عن رحم البيت عند بلوغ سن المدرسة، وهي الفترة التي يمضيها الفرد أساساً في كنف الأسرة. أي أن هذه التوصيلات تنمو وتتشابك تحت التأثير المباشر للأسرة، مما يجعل الأسرة، بكافة صفاتها وأبعادها التي سبق ذكرها، حاضرة في الشبكة الاتصالية الدماغية. وهذا يعني أن الأسرة لا تسهم في البناء النفسي للفرد من خلال صياغة قناعاته وتوجهاته وتحديداته وتفضيلاته فقط، وإنما أيضاً، جزئياً على الأقل، في تشكيل دماغه عضوياً، وتقرير الكيفية التي سيعمل بموجبها مستقبلاً. والأسرة في هذا الإطار لا تمثل نفسها فقط، وإنما يمتد من خلالها تأثير البيئة الاجتماعية بكافة أبعادها.

التطور الثاني هو التطور الحاصل في علم النفس المعرفي في السنوات الأخيرة، والمتمثل في زيادة عدد النماذج المحوسبة في الإدراك، وفي تنوعها وتطورها. وكذلك في الجدارة النسبية لنماذج الحوسبة الربطية والحوسبة الرمزية داخل علم النفس المعرفي، إذ أن هناك محاولات حثيثة للربط بينهما في أنظمة هجينة للاستفادة من جوانب القوة لكليهما وتوسيعها.

وتعد العلاقة بين الانفعال والإدراك مجالاً حديثاً في الدراسة أكد عليه علماء النفس المعرفيون بعد أن كان مهملاً من الباحثين التقليديين. وقد وسعت نتائج الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع فهمنا لكيفية تأثير الانفعالات في تفكيرنا، واقترحت طرائق نستطيع بواسطتها تحسين أدائنا في ظل الظروف الضاغطة.

ثالث التطورات يتمثل في التقدم الحاصل في العلوم العصبية وفي تقانات استبار وتفرّس الفعاليات الدماغية المختلفة بغية التعرف على تكويناتها وموصلاتها العصبونية، وخصوصاً التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي. فقد أصبح لدى علماء الأعصاب وعلماء السلوك طائفة من الوسائل المتقدمة مكنتهم ولا زالت تمكنهم من القيام باستبارات لقياس التناشط الكمي لأجزاء الدماغ المختلفة ومعرفة أية أجزاء منه مسؤولة عن أي وجه من أوجه السلوك. وعن طريق هذه الوسائل أمكن التعرف، في سبيل المثال لا الحصر، على بعض الأدوار التي تؤديها كل من اللوزة والهيبوكامبوس والفص- قبل الجبهي- في مختلف أوجه السلوك. وفي هذا الإطار أمكن التوصل إلى واحد من الاكتشافات التي قلبت أحد أشد الاعتقادات رسوخاً، عندما تبين أن الهيبوكامبوس في الفأر البالغ "يولّد" عصبونات جديدة، وإن هذه العصبونات، بعد ولادتها وتكاملها، تهاجر إلى مناطق أخرى في الدماغ وتقوم بإنشاء توصيلاتها الخاصة جاعلة من نفسها إضافة جديدة إلى بنية الدماغ. ومن المتوقع أن تكون لهذا الاكتشاف، إن تأكد حصوله في دماغ الإنسان، انعكاسات ونتائج عميقة الأثر، عندما يصبح بالإمكان، كما هو متوقع، التحكم بإنتاج العصبونات الجديدة واختيار المناطق التي تهاجر إليها كي تعوض العصبونات الميتة أو المتعطلة أو التي تبدي اضطراباً في وظيفتها.

التطور الرابع هو بروز علم النفس النشوئي، وتمكنه من فرض وجوده على الساحة النفسية خلال زمن قياسي. يفضل علم النفس النشوئي أن يُنظر إليه على أنه نظرية حول أصول، أكثر منه، حول محتوى طبيعة الإنسان. فعلم النفس النشوئي يتفحص على نحو خاص العمليات السببية التي تقوم بإنشاء الآليات النوعية وليس الآليات ذاتها. وهو لا يطرح نفسه بديلاً عن المدارس الفكرية النفسية القائمة، وإنما يطرح نفسه إطاراً عاماً بمقدوره أن يشكل حلقة للوصل بينها. مفترضاً أن يكون بمقدور كافة المدارس الأخرى التواجد تحت مظلة تفسيراته الواسعة لأصول السلوك. وبالفعل نجد، الآن، أن العديد من المعرفيين والمحللين، في سبيل المثال، يتلاقون فيما بينهم ويقتربون من بعضهم على خلفية منطلقاتهم النشوئية. إلا أن الكثير من الحذر والقليل من الاندفاع يبدوان لا مفر منهما هنا. وهذا ما يؤكد عليه عالم الرئيسيات فرانس دي فال، مشيراً إلى أن تبني علم النفس للنشوء نظريةً موحدة لفهم السلوك الإنساني يبدو أمراً لا مفر منه، إلاّ أن الطريقة السطحية التي يقارب بها بعض الدارسين النفسانيين هذه النظرية، حسب تصوره، تثير الكثير من القلق.

وهذا الشعور ينطبق بصورة خاصة على مفهوم التكيف الذي يعني، لدى البعض، أن السمات تنشأ لمنفعة النوع. إلا أن علماء الأحياء شديدو الحذر في إطلاق مثل هذه الاستنتاجات، بينما في المقابل يفترض النفسانيون أن وجود السمة هو تكيف. فالصلع، مثلاً، عند الذكور يمكن أن يكون ذا أساس جيني ولكنه لا يؤدي، على الأرجح، دوراً في اللياقة النشوئية، ونفس الشيء ينطبق على مرض ألزهايمر. فالسمات تأتي على شكل رزمة، كما يقول دي فال، وبواسطة محتويات الرزمة بأكملها ولوحدها فقط تتوفر القدرة على البقاء والاستمرارية، وليس بواسطة سمة منفردة واحدة.

رغم ذلك فإن علم النفس، حسب قناعته، يحتاج نظرية النشوء كي توفر له أساساً لتوحيد نظرياته المتنافرة حول السلوك الإنساني. في نفس الوقت فإن علم الأحياء بحاجة إلى علم النفس ليساعده في فهم السلوك على نحو أفضل. ويتوقع دي فال أن يصبح علم النفس وعلم الأحياء فرعين لعلم واحد يصل بينهما مفهوم النشوء، وما على النفسانيين سوى تطبيق ذلك المفهوم على الكائن الحي بأكمله وليس على جزء منه.

هذه التطورات أثارت وسوف تثير، على الأرجح، العديد من التداعيات التي تجعل من بعض المنطلقات النفسية أوساطاً اتصالية بين العلوم الإحيائية والعلوم النفسية والاجتماعية، منها الآتي:

يتصف علم الإحياء المعاصر، في جانب منه، بأنه علم أَحياء التركيب المنظم، لذا فإن علم الأحياء النمائي هو علم أحياء التركيب المنظم التراكمي أو المتزايد. عندما بدأ فرويد يكتب أفكاره في بداية القرن المنصرم لم تكن بنية التركيب المنظم حاضرة في ذهنه، إذ كان منقاداً لروح عصره، وكان أفق نظرته متحدداً بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية والإنتروبي(2)، وأفكاره كانت متوافقة مع البرامج المعلنة للعلوم الإحيائية آنذاك، أي في توجهها نحو تفسير السلوك وفق مقتضيات قوانين الكيمياء والفيزياء المعروفة في حينها.

معطيات المنظور العلمي المعاصر، على العكس، تؤكد على التركيب المنظم المتزايد والمتنامي. فالنماء الإحيائي يتجه تصاعدياً وليس تنازلياً، لذا يمكن فهم النماء، الآن، في ضوء "النيكنتروبي"، فضلاً عن أن النماء في كليته يتضمن الأفعال المتآزرة وتبادلها بين الفرد والمحيط. هذا التداخل والتفاعل يقع أو يحدث في مستويات متباينة ومتزايدة من التركيب المنظم. ولكن رغم تحدد فرويد في الزمان والمكان، فإن بعض استنتاجاته واستبصاراته النمائية جدير بالملاحظة في أيامنا هذه. وبتأويلها وفق المصطلحات المعاصرة يمكن استخدامها لأغراض التجسير فيما بين فروع المعرفة. ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بالمراحل النمائية الدوافعية - الانفعالية (النماء النفس ـ جنسي) والتي شكلها فرويد في العام ( 1905) ؛ فإذا ما حاولنا فهمها بلغة الأنساق النمائية، يمكننا اعتبار المراحل الطفلية المبكرة مستويات أولية متعاقبة من التركيب المتلاحق المنظم يقوم تحت تأثير تحولات المراهقة، بإعادة تنظيم تراتبي مركب للمستويات الأولية المبكرة، الفموية والشرجية والقضيبية(3). وهذا التأويل يمكن أن يملأ جزءاً من الفجوة بين البعد الإحيائي ممثلاً في الفسلجة العصبية والإيثولوجيا من جهة والبعد النفسي ولاحقاً الاجتماعي الحضاري من الجهة الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى مستويات أكثر تركيباً عن طريق الأفعال المتآزرة كما هو حال مراحل النماء النفسي الاجتماعي لأريكسون. لذا يمكن القول إنه بمقدور التفسيرات القادمة من التحليل النفسي والظاهراتية الوجودية والاتجاهات المعرفية أن تقدم مساهمات حيوية في فهم أفضل لتأثيرات النماء والخبرات الفردية والبيئية. وهو أمر من المرجح أن يؤدي إلى تقارب هذه المنظومات الفكرية من بعضها بعضاً، فضلاً على اقترابها مجتمعة من العلوم الإحيائية.

ومن الأمثلة البارزة على ذلك التقارب ما يحصل الآن في مجال دراسة الانفعالات، إذ يشير الكثير من الباحثين إلى أن الانفعالات عابرة للتفرعات الفكرية والتخصصات العلمية لأنها تنبع من وتعبر عن نفسها على صعيدين: نفسي (السلوك) وإحيائي (الفسلجة). ولا بد إذا ما أريد فهمها بصورة مناسبة من التحري عنها في الجانبين السلوكي وفسلجة الدماغ.

والنظرة السائدة الآن هي أن الدراسات ذات النوعية العالية التي يجب إجراؤها في مجال الانفعالات تتطلب أن يكون الأشخاص الذين يدرسونها من منظور العلوم العصبية ملمين بأسس العلوم النفسية والاجتماعية ومقارباتها. لذا فهم بحاجة إلى جهد من طراز متقدم في مجال السلوك لتعزيز إنجازاتهم البحثية في مجال العلوم العصبية. في المقابل فإن على دارسي السلوك تنمية معلوماتهم وخبراتهم العملية في مجال العلوم العصبية. ويشعر الجميع الآن بأن الحدود والمحظورات بين المنظومتين العلميتين والتي بقيت سائدة حتى وقت قريب يتعين أن تزال، لأن ذلك أمر لا غنى عنه في ترقي المعايير العلمية للمنظومتين.

ولم يعد الكثير من علماء الأعصاب يترددون في الإشارة إلى تأثرهم الشديد بأسس المقاربات النفسية والإيثولوجية والنشوئية للانفعالات، بعد أن احتكوا بها خلال الأعمال المشتركة مع ممثلي تلك المقاربات. فقد أخذوا يعترفون على نحو متزايد بأنها علمتهم البحث عن وظيفة السلوك ودراسته من خلال سياقات ذات معنى، مثل السياقات العلائقية والدينامية الاعتمالية؛ بتعبير آخر الدراسة المعمقة للسلوك بدلاً من الاعتماد أحادي التوجه على ما يقرره الشخص موضوع البحث.

وعلى خلاف ما كان دارجاً فإن العاملين في مجال العلوم العصبية لم يعودوا يعدون العلوم النفسية والاجتماعية أرضاً رخوة لا تقدر على إسناد البحوث الجادة وصاروا أكثر تقديراً للدقة والمتانة التي تؤدي إليها المقاربات المشتركة.

ويعلق بول إكمان في هذا المجال بالقول ؛ إن المعرفة لا تدين لمنظومة علمية واحدة. فالانفعالات، على سبيل المثال، موضوع يتعدى ويتحدى العديد من منظومات العلوم- علم الاجتماع، علم النفس، علم الإنسان، وعلوم الأعصاب ـ، لذا فهي لا تنتمي إلى منظومة علمية واحدة، ناهيك عن فرع من فروع علم النفس. والسلوك ـ بالمعنى الواسع لمفهوم السلوك ـ هو نتاج للدماغ، وأثناء المضي في استكشاف الدماغ فإن أموراً غاية في الأهمية والإثارة من المرجح أن تتكشف. لذا فالاضطرابات النفسية والانفعالات والشخصية والإدراك والتعلم جميعها عناوين كبيرة في علم النفس يتعين على الباحثين فيها أن يكونوا على صلة وثيقة بما يمكنهم تعلمه عن الدماغ.

في المقابل جعلت هذه التطورات البعض يتوقع أن يفقد علم النفس مكانته لصالح العلوم الإحيائية والعصبية. ولكن، حسب اعتقادنا، قد يكون بمقدور "البيولوجيا" الجزيئية والعلوم العصبية إيضاح كيف يحدث هذا السلوك أو ذلك الانفعال أو تلك الفكرة، ولكن علم النفس سيبقى الوحيد القادر على إخبارنا لماذا يحدث كل ذلك.

هوامش

1- يرى بعض الباحثين أن عمل الدماغ البشري، نظراً لعدد العصبونات وتوصيلاتها الهائل، لا يمكن التحاسب معه إلا في ضوء ميكانيكا الكم، ولا يجوز النظر إليه وفق متصل النسبية الزمان ـ مكاني، الذي يبدو فيه عمل الدماغ وكأنه إطارات شريط سيمي تمضي أحداثه من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر بتتابع منطقي مقرر سلفاً. ولكن وجهة النظر هذه من شأنها، بحسب باحثين آخرين، أن تلقي عمل الدماغ البشري في دوامة اللايقين.

2- يمكن إيضاح الإنتروبي entropy كما يلي: يفيد القانون الثاني للديناميكا الحرارية بأن الطاقة تنحط من أشكالها العليا القابلة للاستثمار في شغل إلى أشكال أدنى تكون فيه مقيدة وغير قابلة لمثل ذلك الاستثمار. وقد سمي هذا الانحطاط في الطاقة إنتروبي، وعكسه نيكينتروبي أو الإنتوبي السالب، ومن أمثلته قيام النبات باستخدام ضوء الشمس في بناء أشكال أعلى من الطاقة. وكان عالم الفيزياء إروين شرودنكر قد أوضح أن واحدة من الصفات التي تميز الأنساق الحية عن سواها في العالم المادي هي قدرة "التغذي على الإنتروبي السالب.

3- إذا سلمنا بأن بنى الدماغ وعملياته تتصاعد، خلال مسيرة حياة الفرد، من الأولي المبسط إلى الثانوي المركب ومن اللانوعي إلى النوعي ومن اللاتخصص إلى أعلى مراتب التخصص، يمكننا القول إن العمليات الدوافعية (الغريزية) والانفعالية على مستوى نوى اللوزة والتكوينات ذات الصلة تكون ابتداءً بسيطة لانوعية وليست متخصصة تماماً، أي أن وظائفها مختلطة متداخلة وغير متميزة. لذا يمكن للدوافع الفموية والجنسية والعدوانية البدائية والفجة أن تتبادل التعبير عن نفسها بصورة مختلطة ومتداخلة مع بعضها بعضاً. ولا يتحقق التمايز والتخصص إلا عبر المرور في كافة المراحل النمائية وبالتفاعل مع البيئة. من هنا يمكن القول إن المراحل النمائية الفرويدية هي أفعال متآزرة على المستوى العصبوني البنيوي والأسري، بينما مراحل أريكسون النمائية هي أفعال متآزرة على المستوى الاجتماعي الحضاري. والاثنان يمثلان متصلاً مستمراً من التخصص والتركيب والنماء التراكمي.


المصدر : الباحثون -العدد 26 --آب 2009

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

مدونة الطالب

2016