التعليم عند ابن خلدون: دراسة تحليلية
مقدمة
ابن خلدون، المؤرخ والفيلسوف الإسلامي
الشهير، قدم إسهامات كبيرة في مجال التعليم والتربية ضمن كتابه
"المقدمة". كانت آراؤه التربوية نتيجة لتأملاته في تطور المجتمعات
وتأثيرها على التعليم. يناقش ابن خلدون في "المقدمة" ماهية العلم، منشأ
صناعة التعليم وتطورها، طرق التدريس، والمناهج التعليمية، واضعاً أسساً نظرية
تربوية لا تزال تحظى بالاهتمام والدراسة حتى اليوم.
ابن خلدون يحدد العلم بأنه "حصول
الفكر على شيء لم يكن حاصلاً عليه من قبل" . وهذا التحصيل ليس طبيعياً، بل
مكتسب يتم الحصول عليه تدريجياً. العلوم لديه تصنف إلى نوعين:
العلوم النقلية: وهي التي تُنقل عن الواضع
الشرعي، ولا مجال للعقل في تحصيلها، وتشمل العلوم الشرعية .
منشأ صناعة التعليم وتطورها
يرى ابن خلدون أن "العلم والتعليم
طبيعي في البشر"، فالإنسان يتطلع دائماً إلى تحصيل ما يفوقه من المدركات،
ويرجع فيها إلى من سبقه بعلم أو إدراك أو خبرة. هذا الطموح هو ما ينشأ عنه
التعليم، والذي يزدهر حيث يكثر العمران وتزدهر الحضارة . يضيف ابن خلدون أن
التعليم تطور عبر الزمن من كونه نقلاً مباشراً لما سُمع من الشارع وتعليم لما جهل
من الدين إلى أن أصبح صناعة وملكة تُكتسب بالتعلم .
طرق التدريس
ابن خلدون يضع تصوراً لمنهجية التدريس
تعتمد على تدرج المتعلم في تحصيل العلم على مراحل ثلاث:
المرحلة الثانية: العودة إلى نفس الفن
بتفصيل أكبر، واستيفاء الشرح والبيان، والتطرق إلى الاختلافات ووجهاتها.
المرحلة الثالثة: الشرح المفصل والشامل،
بحيث لا يُترك للمتعلم عويصًا أو مبهمًا إلا وُضح .
ابن خلدون يشدد على ضرورة التكرار
والتدرج من البسيط إلى المركب في التعليم، وينتقد الأساليب التي تتجاهل هذه
المبادئ، ويؤكد أن الميل إلى العقاب البدني مضر بالمتعلمين .
المناهج التعليمية
ابن خلدون يناقش المناهج التعليمية
المتبعة في عصره ويصنفها إلى أربعة مذاهب رئيسية:
مذهب أهل الأندلس: يمزجون القرآن مع الشعر
والترسل وقوانين العربية.
مذهب أهل أفريقيا: يخلطون القرآن بالحديث
والعلوم الأخرى مع عناية كبيرة بالقرآن ورواياته.
مذهب أهل المشرق: يهتمون بالقرآن ومبادئ
العلوم دون خلطه مع تعليم الخط .
ابن خلدون يفضل منهج القاضي أبو بكر
العربي، الذي ينص على تقديم تعليم العربية والشعر على القرآن وسائر العلوم، يلي
ذلك تعليم الحساب، ثم تعليم أصول الدين وأصول الفقه والجدل والحديث .
ابن خلدون قدم في "المقدمة"
رؤية شاملة ومتكاملة حول التعليم والتربية، مبتدئاً من ماهية العلم، مروراً بمنشأ
وتطور صناعة التعليم، وصولاً إلى طرق التدريس والمناهج التعليمية. آراؤه تُعَدُّ
مرجعاً مهماً في الفكر التربوي، وقد تأثرت بها النظريات التربوية الحديثة التي
تعترف بأهمية التدرج في التعليم، الاستعداد لدى المتعلم، والابتعاد عن العقاب
البدني كأسس لتحقيق تعليم فعال ومفيد.
ابن خلدون، المقدمة، الفصل السادس:
"العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه وسائر وجوهه".
إرسال تعليق