الموريسكولوجيا..والامتحان الصعب!
الحديث هنا يحاول أن يلقي ضوءًا خافتًا على مجموعة غير يسيرة من المسلمين في الأندلس تعرضوا لصنوف من الامتحان؛ لأنهم مسلمون، ولم يذكر لنا التاريخ أنهم كانوا سببًا مباشرًا أو غير مباشر لما تعرضوا له من الإهانة التي يخجل الإسبانيون اليوم من ذكرها أو التعرض لها، ويطلب العلماء منهم عدم التوسع فيها، من حيث الدراسة والبحث، ففي القرن العاشر الهجري تعرضت طائفة من المسلمين إلى التنصير القسري كحل من حلين وضعا أمام مسلمي الأندلس، وكان الحل الآخر مغادرة البلاد.. أي النفي والطرد والإبعاد من الأندلس ومراكزها العلمية ومكتباتها ومخطوطاتها وآثارها، أو آثار المسلمين فيها، وليت الخيار الثاني (الطرد) قد سمح معه بأخذ هذه الآثار العلمية، ولكن المسلمين كانوا يخرجون مجردين من كل شيء نافع، حتى ليذكر الدكتور عبدالجليل التميمي في محاضرة له ألقاها في مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض الأسبوع الماضي أن مليون مخطوط عربي قد أحرقت في ساحة واحدة في وقت واحد، وأمر بحرقها القسس والرهبان، أما الذين رفضوا الرحيل فلم يكن أمامهم - ظاهرًا - إلا التنصر، وكانت هناك متابعة ومراقبة عجيبة لهؤلاء الموريسكيين، بحيث يحرق حرقًا من يعلم أولاده القرآن الكريم أو اللغة العربية، ويحرق من يؤوي مسلمًا لم يتنصر ظاهرًا على الأقل، ويحرق من يعين على تهريب مسلم خارج البلاد، ويحرق من يصر على الاسم العربي المسلم، وتحرق النساء أكثر من الرجال، سعيًا وراء التقليص من الإنجاب، وسعيًا وراء التقليص من نشاط النساء الموريسكيات في الحفاظ على الخلفية الدينية لهن ولأزواجهن ولأولادهن.
ويسأل البعض عما إذا كان الدافع لهذا كله سياسيًّا أكثر منه دينيًّا في محاولة للتقليل من تعميق هذه المأساة، فيصر الدكتور التميمي على أن الامتحان الصعب هذا كان دينيًّا، وأن الإسبان متعصبون لكاثوليكيتهم، ولأن القسس كانوا يباشرون الإحراق والطرد، ولأن المسألة لم تكن للقضاء على العنصر العربي، وإنما كانت للقضاء على الوجود الإسلامي، بدليل أن الدم العربي لا يزال موجودًا في إسبانيا والبرتغال وأمريكا الوسطى والجنوبية في الوقت الذي تلاشى فيه التأثير الإسلامي على المجتمع الأندلسي، ولم يبق من المسلمين إلا عدد قليل ليس مسجلًّا رسميًّا، وإن كانت هناك محاولات جديدة وجادة لعودة بعض الموريسكيين الأندلسيين إلى دينهم الذي ارتضَوْه، ولكنها محاولات متأخرة.
ومحنة الموريسكيين تحتاج إلى وقفات طويلة وعلمية وموضوعية بعيدًا عن العاطفة التي لم تُجْدِ في حل القضايا المصيرية، وهذه الوقفات العلمية لن تجد من يعترضها، فوثائق ومحاضر محاكم التفتيش موجودة ومهيأة، وتحتاج إلى من يتقن اللغة الإسبانية أولًا، ثم النبش في الكتابات الخميالية المكتوبة بالحروف العربية واللغة القشتالية.
والعرب بخاصة والمسلمون عمومًا متأخرون في دراسة هذه المحنة؛ حيث يثبت العالمون أن خمسًا وتسعين بالمائة من الدراسات عن الموريسكيين (95%) صدرت عن غير المسلمين، حتى ظهر علم جديد سموه الموريسكولوجيا (علم الموريسكيين)، بينما تقف مراكز البحوث وأقسام التاريخ والحضارة في الجامعات العربية قاصة ومقصرة في هذا المجال، وقليلًا ما تجد أستاذًا - واحدًا - أو اثنين متخصصين في تاريخ المسلمين في الأندلس، وإنما هي مجموعة من الخواطر الأدبية العاطفية، كالقصائد والكتابات السطحية السريعة - مثل هذه الحروف - تندب الحظ، وتعَضُّ أصابع الندم، وتُوَلْوِلُ على ما أصاب المسلمين في الأندلس، وما يصيب غيرهم اليوم في بلاد إسلامية أخرى.
بل إن المعرفة باللغة الإسبانية أيضًا محدودة جدًّا في وقت نجد فيه أقسامًا متكاملة التجهيز للغة الإنجليزية وآدابها مثلًا..وذلك على حساب الاهتمام باللغات الأخرى؛ كالإسبانية والتركية والفارسية والأردية وغيرها من اللغات المليئة بالمعلومات العلمية حول الإسلام والمسلمين والعرب والحضارة التي تستحق أن يلتفت إليها.
ولا عذر لنا اليوم في جميع الجامعات العربية والإسلامية ومراكز البحث العلمي، حيث توافرت تقريبًا جميع الوسائل العلمية من المكتبات ومراكز البحوث وتوافر الاطلاع على الوثائق والمحاضر والمخطوطات التي وصلت إلى المكسيك وبيرو من أمريكا الوسطى والجنوبية حتى ليقال: إن محاكم التفتيش قد زاولت أعمالها في هذين البلدين اللذين كانا مستعمرين من قبل إسبانيا..فتتبعت المحاكم الموريسكيين الأندلسيين في أمريكا الجنوبية والوسطى، واستعملت معهم أساليب، منها الحرق ومصادرة الأموال والمقتنيات والطرد، في أن نبحث في جميع جوانب هذا التراث العربي الإسلامي.
وإذا كان العلماء الإسبانيون يتحفظون على هذه الحقبة من تاريخهم، فإنهم يرحبون بالدراسات والبحوث وإلقاء المحاضرات وعقد الندوات وإقامة المؤتمرات حول الوجود الإسلامي في إسبانيا عمومًا بما فيه معالجة هذا الامتحان الصعب الذي تعرض له المسلمون "الموريسكيون الأندلسيون"، خاصة في القرن العاشر الهجري حينما كانوا يساقون إلى الكنيسة ويُعمَّدون قسرًا وتُغَيُّر أسماؤهم إلى الإسبانية، حتى لتجد اسم الشخص "فيليب" واسم أبيه "روبيرتو" واسم جده الأول "ارنستو" واسم جده الثاني "بلاثيوث" واسم جده الثالث عبدالرحمن بن محمد العامري، وتتردد هذه الأسماء لمسلمين، ولا نعرف أنهم مسلمون، وهكذا أريد لهم ألا يعرفوا إلا بأنهم إسبانيون.
نحن بحاجة إلى التركيز على مثل هذه الجوانب من تاريخنا لنوضح عمليًّا للآخرين ما قوبل به المسلمون من قِبَل النِّحَل والمِلَل الأخرى في الوقت نفسه الذي قابل به المسلمون أصحاب هذه الملل والنحل من منطلق ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، والله المستعان.
إرسال تعليق