الحكامة الجيدة في دستور 2011 كأداة لربط المسؤولية بالمحاسبة


الحكامة الجيدة في دستور 2011 كأداة لربط المسؤولية بالمحاسبة


لقد خص دستور 2011 الحكامة الجيدة بباب كامل هو الباب الثاني عشر منه، الذي أسس من خلاله لمجموعة من المؤسسات والهيئات التي تشكل قفزة نوعية في مجال التكريس لمنطق الديمقراطية، والشفافية، والجودة، والمسؤولية في العمل العمومي. هذه المؤسسات بعضها كان منصوص عليه قبل دستور 2011، لكنها اليوم اكتسبت استقلاليتها وانتقلت من مجرد هيئات استشارية إلى هيئات تقريرية ضبطية، تساهم في تجويد التدبير العمومي، وتعطي عنوانا جديدا للمرفق العام، وللعلاقة ين المرتفق والإدارة، ولفعل التدبير العمومي، قوامه الشفافية والمناصفة والجودة في التدبير.

لقد عمل دستور 2011 على دسترة مجموعة من الهيئات والمؤسسات، نذكر منها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، التي تكمن أهدافها في السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر، والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري، وذلك في إطار احترام القيم الحضارية الأساسية وقوانين المملكة (الفصل 165 من الدستور). وكذلك دسترة مجلس المنافسة، الذي يعتبر إحدى الوسائل التي تعمل على تخليق الحياة الاقتصادية من كافة الأعمال الضارة بالعملية الاقتصادية، وضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، خاصة من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار (الفصل 166 من الدستور).

كذلك، من بين الهيئات التي نص عليها الدستور، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والتي تشكل النواة المحورية من أجل تخليق الحياة العامة، والتي خصها المشرع بمهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة (الفصل 167 من الدستور).

وفي باب تمكين المواطنات والمواطنين والشباب ومنظمات المجتمع المدني من المشاركة في عملية الحكامة المؤسساتية، فقد خصصت كل من الفصول 12، 13، 14، 15، و139 من الدستور للآليات المنوحة لهذه الفئة من أجل المساهمة في عملية تخليق الحياة العامة، وأيضا في إطار الديمقراطية التشاركية المساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، والمشاركة في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها، وتقديم ملتمسات في مجال التشريع، وتقديم عرائض، الهدف منها مطالبة مجلس الجهة جماعة ترابية، بإدراج نقطة تدخل ضمن جدول أعماله.

وفي هذا الصدد، وسيرا على نفس المنوال، فقد خصص الفصل 33 و170 من الدستور للمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، وذلك من أجل تيسير ومساعدة الشباب على الاندماج في الحياة النشيطة والجمعوية، وتقديم المساعدة لأولئك الذين تعترضهم صعوبة في التكيف المدرسي أو الاجتماعي أو المهني، وتيسير ولوجهم للثقافة والعلم والتكنولوجيا، والفن والرياضة واللأنشطة الترفيهية، مع توفير الظروف المواتية لتفتق طاقاتهم الخلاقة والإبداعية في كل هذه المجالات، وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية بروح المواطنة المسؤولة، وتسهيل عمل الجمعيات للعب أدوارها الطلائعية في العملية التنموية، وفي مراقبة الشأن الوطني والترابي، من أجل المساهمة في حكامة جيدة للتدبير العمومي.

من هذا كله، فالحكامة الجيدة لا يمكنها أن تعطي ثمارها ومفعولها في التدبير العمومي، وأن تتبلور على أرض الواقع، بدون تفعيل حقيقي، جدي، ومسؤول، لمختلف الهيئات والمؤسسات التي نص على إحداثها دستور 2011، فلا يكفي التنصيص عليها فقط ووضعها كسطور على ورق، وإنما يجب إخراجها للوجود وتفعليها بشكل ملموس حتى تلعب دورها المطلوب منها الكامن في تجويد التدبير الترابي وعقلنته، وربطه بمبادئ الشفافية والنزاهة والمسؤولية والمحاسبة، كل هذا في اتجاه الرقي بعمل مؤسساتنا العمومية، ومنح الوحدات الترابية المرتبة التي تستحق، فلا يكفي أن تبقى فقط عبئا على الدولة من ناحية تمويلها وتنميتها، ولكن يجب أن يتغير هذا الدور إلى إدماج الوحدات الترابية كشريك مع الدولة في العملية التنموية، كهدف رئيسي من أهداف الجهوية المتقدمة.

فالحكامة الجيدة لا يمكن لها أن تتحقق بدون مشاركة الجميع، بمواطنة إيجابية ومسؤولة من طرف المواطنات والمواطنين، وكذا الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، وذلك في إطار مقاربة تشاركية يكون هدفها الأساسي هو إعطاء وإنتاج نوع جديد من التدبير العمومي، خصوصا وأن دستور 2011 منح وسائل وآليات من أجل ذلك، ولا يبقى إلا تفعليها من أجل التكريس لمنطق ومفهوم دولة القانون والمؤسسات، فالأشخاص يموتون وتبقى المؤسسات.


الإبتساماتإخفاء