العولمـة والعرب ورهانـات المسـتقبل

العولمـة والعرب ورهانـات المسـتقبل


دراسات ومؤلفات لا تعد ولا تحصى، كتبت عن العولمة وآثارها وتأثيراتها وأهدافها وغاياتها، وما زالت هذه الكتابات والأبحاث تتواصل، وأعتقد أنها سوف تتواصل وتستمر ما دامت الهيمنة الأميركية مستمرة، والعولمة ليست جديدة، فهي ظاهرة قديمة ومستمرة، ارتبطت بشكل أو بآخر بتطلعات الإنسان خارج حدوده، كما أنها ترافقت مع ظاهرة التقدم التكنولوجي ومنذ اكتشاف البوصلة، فإن الجانب الاقتصادي هو الذي طغى على غيره من مظاهر العولمة، أما التغيرات الاجتماعية والثقافية الأخرى، فإنها تشكل مظاهر وإفرازات للجوانب الاقتصادية.

التطلع نحو العالم والوصول إليه وبسط النفوذ عليه، بدأ مع الحضارات القديمة، حيث كانت الفتوحات والتوسعات المختلفة، والأقوى هو الذي يبسط نفوذه على الرقعة الأوسع، وما الديانات السماوية في هذا المجال إلا تعبيرات فكرية وثقافية وسياسية للتطلع نحو العالم، فالمسيحيّة التي انطلقت من فلسطين كانت رسالتها عالمية، وإن بدأت بالفكر والدعوة للديانة المسيحية إلا أن الاقتصاد والسياسة شكلا أداتين هامتين في قفزة الدولة المسيحية التي وصلت في أوجها في عصر الدولة المسيحية، والتي كانت تطلعاتها العالمية ليس لها حدود.

والشيء نفسه يمكن أن يشار إلى الإسلام، باعتباره رسالة سماوية أتت للبشرية جمعاء، وإن كانت الجزيرة العربية مهدها، والعرب أهلها الأوائل، لكنها رسالة بأفكارها ومعتقداتها ونظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، طرحت نفسها باعتبارها دين ونهج كل البشرية دون استثناء، أي أنها كانت ترى العالم كله ميدانها، وفي الإنسانية روحها ورسالتها وبالتالي فقد «عولمت» الفكر الديني، الذي بدوره عولم الاقتصاد والسياسة.. ولم تقتصر عولمة الفكر والسياسة على الأديان فحسب، بل إن العديد من الأفكار والسياسات الوضعية كانت هي الأخرى لها تطلعات عالمية ومنذ القدم، فالإسكندر المقدوني كان يرى بأنه ملك الكون، وعلى الكون الخضوع لإرادته، والإيديولوجية الماركسية – اللينينية، وهي رسالة إنسانية أتى بها المفكرون الاشتراكيون (ماركس - إنجلز - لينين) من أجل أن تكون أيديولوجية الكون، ونظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فهي لم تعترف بالقوميات، ولم تقر بالدولة ولا بالحدود، بل نظرت إلى العالم باعتباره وحدة واحدة يجب أن تسوده يوماً ما الشيوعية، لأنها النظام الإنساني القادر على إقامة العدالة، ووضع حد لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.. وفي التاريخ العديد من المحاولات لعولمة الكون، ولكل محاولة غايتها وطريقها ورسالتها.

لقد تعددت مفاهيم وتعريفات العولمة، منها ما عرف بالكونية، ومنها ما عرف بـ «ما بعد الإمبريالية» أو ما بعد الاستعمار، ومنها ما ربطها بالولايات المتحدة الأميركية وبالهيمنة والسيطرة، وتوحيد العالم من خلال رأسمالية السوق، وتوحيد الاستهلاك، وسيادة نمط إنتاج عالمي واحد، له قواه المنتجة، وله علاقاته الإنتاجية الملائمة والمميزة، وله بنيته الفوقية العولمية المناسبة، وله فكر وثقافة وأدب معبر عنه وعن طبيعته.

لقد فتحت العولمة المجالات واسعة لتواصل الثقافات، وقامت ثورة الاتصالات بدورها عصراً جديداً عن التطور الثقافي للبشرية، جعلت من الممكن لكل الشعوب، مهما كانت درجة نموها الاقتصادي والاجتماعي أن تتعرف على بعضها، وبشكل خاص على نمط الحضارة الراهن، كما تعيشه المجتمعات الصناعية، وأصبحت قيم ما يطلق عليه اسم الحضارة المادية قيماً مشتركة في كل أنحاء المعمورة، مما ساعد على ولادة مجال «جيو ثقافي» جديد، ومن ورائه نظام عالمي للثقافة والتبادل الثقافي، مما ساعد على إخضاع الثقافة لمنطق التجارة، وتعميق «دينامية» السيطرة الثقافية، وتأكيد سيطرة وقيم الثقافات الكبرى، التي احتلت الفضاء العالمي الجديد... وأدت إلى تضاؤل وزن الثقافات الوطنية ونفوذها، وسيطرة الشركات الصناعية والتجارية الكبرى كصانعة للأحداث على حساب الذوات الاجتماعية الوطنية أو السياسية أو الثقافية.

من خلال هذا نرى أن العولمة ليست هدية سعيدة للشعوب الضعيفة، والشكوى والأنين والحنين إلى الماضي، ولوم النفس على الفرص الضائعة، وندب الخط على ما نعيشه من تراجع وانحطاط وتخلف، لن يساهم مطلقاً في حل أمورنا ومشاكلنا التي تزداد يوماً وراء يوم.. المطلوب منا في وقتنا الراهن إعادة اكتشاف الذات، والعمل على إنتاج ثقافة وطنية قومية فاعلة تعرف معنى الأنا والآخر، وتحديد أولويات القرار، والعمل دون التفكر للتصورات أو المسارات الموروثة من الماضي، والعمل على إنجاز الرؤى المستقبلية التي لن تحسم إلا في إطار العمل القومي، الأمة العربية كانت عبر تاريخها الطويل تشتمل على البذور والغراس الصالحة للاستنبات والاستثمار ومواجهة التقلبات والظروف التي واجهتها.

إن الواقع العربي بشكله الذي هو عليه، مضطرب ومتصادم ومتخلف، مما يدعو الحاجة إلى وصف وتشخيص وتحليل الواقع والعمل على مواجهة اختلالاته، والخروج منه، والعمل على تحقيق النموذج المنشود، بما يتفق وقدراتنا الاقتصادية والاجتماعية والنفسية..

إن الحضارة في جوهرها مشروع للنهوض، وعلى الإسهامات الفكرية أن تدرك هذا الأمر، وتدرك أين موقعها فيه أو محلها منه، لتصب في السياق الصحيح، ففي وضعنا الراهن ليس بوسعنا أن نجعل مكاننا وزماننا أفضل من السابق، ولو بدرجات.. ومع أن تحقيق ذلك يبقى أمراً صعباً في ظل عالم متغير، إلا أنه يبقى أكثر جدوى من العيش في عالم الآمال والأحلام والشلل التام، وفي ظل ما قدمه تاريخنا، يمكن أن نستفيد من دروسه، واستثماره في ابتكار منظومة إسناد جديدة، تحكم الوصل بين الحاضر والمستقبل، وتلعب دورها في إعادة تكييف الثوابت من جديد لتتلاءم مع المتغيرات، ضمن منهجية نقدية تهدف إلى تحديث الثقافة العربية، القادرة على استيعاب حقائق الواقع، ومنه الماضي، وتطلعات المستقبل، الذي يمكن من خلاله إنتاج حضارة خاصة بنا.

إننا مطالبون اليوم بأن نواجه بشجاعة وفكر واضح لا لبس فيه ولا غموض مسألة العلاقة بين التفكير العلمي، الذي أجمعت الآراء ضرورة الربط بينه وبين الثقافة العالمية، وبين الاستنارة الدينية، التي تعني الانفتاح على الواقع، والقدرة على الاستماع للرأي الآخر، لا التزام رأي واحد وإنكار كل ما عداه.. والعمل على إقامة مشروع عربي ثقافي حضاري يؤهلنا لمواجهة تحديات عالم العولمة، وحرية التجارة في الأفكار والخبرات، لا المواد والمنتجات والأموال وسيطرة وسائل الإعلام وطوفان المعلومات من كل حدب وصوب.

لقد دخل العالم عصراً أصبحت الثقافة هي مديرة شؤونه، وقد وجدت شعوب العالم التقليدية نفسها مشلولة إذا لم تحدّث تربيتها وإداراتها وأجهزتها وأساليب عملها، ومحيطنا يفرض علينا هذا الواقع بقوة، فقد أصبحت التكنولوجيا في عالم اليوم أداة حياة بالدرجة الأولى، وقد استطاعت أن ترتقي بحياة مئات الملايين من البشر، وطبعاً الحديث عن التقانة بمعزل عن أسلوب التفكير وأسلوب العمل، فالتقانة ليست مكسباً خارجياً تستورده الشعوب لتأسيس حياتها، وإنما هي عمل دؤوب في الفكر، وفي أساليب تسيير الإدارة وأساليب التفكير ورد الفعل إزاء ما يحدث، فالتطور الحقيقي يحدث في التقانة حينما تصبح برنامج عمل، وبرنامج حياة وهي في كل ذلك ترتبط بمجموع العناصر التي يقوم عليها المجتمع ( سياسة - اقتصاد - تربية - إعلام - إدارة.. ) وتفرض عليها نموذج تفكير وتفعيل يتناسب مع الإمكانات التي توفرها لمستخدمها.

والتقانة تفرض ثقافتها على مستخدمها سواء على المستوى الاجتماعي والسياسي أو على مستوى اللغة والمصطلحات والبرامج، أو على المستوى العلمي، ومن الطبيعي أن يجد الإنسان نفسه في حاجة إلى تغيير نظرته ومفاهيمه، وبشكل جذري حياته.

لقد دخلت التقانة في مجمل حياتنا اليومية، وقد استوردنا التجهيزات ولم نستورد طرق العمل والإنتاج، وفي كثير من الأحيان تعاملنا مع هذه التقانة المتطورة بمنطق الترفيه، ولم توضع عملياً ومعرفياً في مكانها الوظيفي، رغم جرأة الشباب العربي على اقتحام مجال التقانة، وظلت أجهزتها مجرد آلات في الإدارة، ربما للعمل المحاسبي وتصنيف الأوراق والبريد، ولكنها لم تؤثر بشكل فعال ومؤثر على السير التقليدي للإدارة العربية، وما زالت البيروقراطية تأخذ يوماً أو أكثر لاستخراج شهادة ميلاد أو حسن سلوك أو لا حكم عليه، وما زالت تعيش ثقافة الخوف من كل ما هو جديد، ولا يخفى على أحد أن عصر التقانة الذي نعيشه اليوم، لا يكتفي بالسعي إلى عولمة ثقافة واحدة، ولا إلى السيطرة على موارد الشعوب الاقتصادية والمعلوماتية، وإنما يسعى إلى السيطرة على البنى الفوقية للمجتمعات وبخاصة على منظوماتها الذهنية، الإبداعية والفكرية باعتبارها السبيل الأفضل والمختصر للتحكم في ثرواتها، وبحكم التغيير الكيفي - العلمي الذي تفرضه هذه التقانة، فإن فعلها يتم داخل الثقافة بالدرجة الأولى، وفي منظوماتها وقوانينها وظواهرها ومعلوماتها.

نحتاج في وقتنا الراهن وفي مستقبلنا إلى عمل متواصل على جبهتين:

جبهة المعرفة: حيث يجب العمل على المستقبل بدل العمل على الماضي الذي نعيش تحت سطوته منذ قرون عديدة، وهذا يتم من خلال التشجيع على التفكير في وعي وأهداف جديدة لحياتنا كمشاركين وفاعلين وليس كضحايا لثقافة العولمة.جبهة المجتمع: بتوفير إرادة سياسية في التغيير، وتكثيف الزمن الاجتماعي والإداري، وفتح مجالات إنتاج واستثمار المعلومات وتبادلها بين الأفراد والمجتمع، وهو ما يتيح فرصة إعادة بناء مجتمع عضوي قابل لتمثّل التقانة وإنتاجها.

وحتى نس نحتاج في وقتنا الراهن وفي مستقبلنا إلى عمل متواصل على جبهتين:

تطيع تحقيق ذلك نحتاج إلى عمل مكثف وعميق داخل الذاكرة العربية، بثقافتها وتقاليدها، لتعويدها على لغة الثقافة، (لغة الاستعمال والتعامل معها دون عقدة ولا خوف) وهذا لن يتم بعزلة عن فلسفة ثقافية مستقبلية واضحة المعالم، فالثقافة التقانية تتراكم وتتفاعل من خلال فهمنا لفاعليتها وضرورتها، وعلى الأخص من خلال الحاجة إليها، وهي حاجة تنبع أساساً من وعي المستقبل، الذي يجب أن يتأسس في مناخ سياسي قابل لحرية تداول المعلومات، وفرص أكبر للارتقاء بالمستوى المعيشي، وتوزيع الخدمات الثقافية بين أفراد المجتمع، ورغبة أكبر لدى الإنسان في المشاركة في بناء مستقبله ضمن بيئته وعالمه.

إن عمل العلماء والمفكرين والمبرمجين سيكون في هذه المرحلة أساسياً في وضع قواعد تفكير وعمل تتماشى والمستجدات التقانية، والحياة الاجتماعية والثقافة اليومية، كما أن دور المبدعين في المجال الأدبي والسينما والتلفزيون والتشكيل والصحافة سيكون أولياً بالنظر لتعامل المواطن اليومي مع إنتاجهم، ولكن العمل الأكثر جدوى من الناحية العلمية، سيكون العمل الأكاديمي، الذي يمكنه أن يقدم المساعدة الكثيرة في تكثيف الخطوات للحاق بما أنجز في مجالاته، وفي تسهيل تعامل المواطن مع التقانة، وتبني ذاكرة ثقافية قادرة على التفكير الرقمي بما يفرضه من مناهج وقواعد ونظريات ونقد.. وهذا العمل الدائم سيمكن العلماء والمخترعين العرب من المشاركة في صناعة التقانة، وتآلف المجتمع معها.

في وقتنا الراهن أصبحت قوة الأمم تقاس بدرجة تحكمها في مسالك ووفق المعلومات، وأجيالنا أصبحت أجيال مجتمع المعلومات، الذي يجب أن نرغب بالعيش فيه بشدة حتى نستطيع التواصل مع المستقبل.. لقد تغيّر سلم أولويات الثقافة والمعلومات، وتغيّرت الأذواق والاهتمامات والمقاييس والمعايير.. السؤال الذي يطرح نفسه أمام كل ما يحدث ما هي الثقافة مستقبلاً؟ ومن هم مثقفو المستقبل؟ وكيف سيكونون؟ وهل سيتحول الناس جميعاً إلى مثقفين إذا هم تحولوا إلى متعلمين ومتخصصين؟

إن عملية التعدد والتوسع والتداخل والتضارب، جعلت الحديث عن الثقافة مرادفاً للحديث عن التعليم والسباحة والتربية والمعارض والمهرجانات والأدب والعلوم والرياضة.. لقد كانت الثقافة في الماضي القريب ظاهرة تميّز أو على الأصح طموحاً نحو التميّز، لأن التميّز بحد ذاته جزء من عملية الاستقطاب التي تؤدي إلى التغيّر والتطور، وبفقدان هذه الخصائص فإن الثقافة فقدت حدودها بسبب التداخل الحاصل في مواضيعها، وفقدان حدودها الجغرافية والزمنية والوطنية، وهذا ما أدى إلى نشوء إطارين متمايزين للثقافة، أحدهما: الإطار العام للثقافة العامة، وهو ما نسميه «الثقافة العامة» والإطار الآخر للثقافة الخاصة المتميزة، وهو ما نسميه «الثقافة الخاصة».

المستقبل سوف يشهد تضاؤل الأهمية التاريخية الريادية أو الطليعية لكل من الثقافة العامة والثقافة العامية على أهميتها، أي أن دورهما في تحقق قفزات وإبداعات وطنية وقومية وإنسانية متجددة، ستكون أقل أهمية، في حين سوف تلعب الثقافة الخاصة دوراً أكبر لتحقيق طموحات التغيير والتطوير.

وحتى تستطيع الثقافة العربية تحقيق نموها المستقبلي المنشود وتحقيق الغايات المرجوة من تنميتها المستقبلية، لابد من ربطها بعملية التربية والتعليم، وجعل الإعداد التربوي والروحي أحد جوانب وأنواع الإعداد الرئيسة لها، لجعلها على مستوى تحديات المستقبل ومتطلباته، وترفع شأن العلم النافع باعتباره أساس التقدم الحقيقي للأمة العربية.

•د. عـلي القـيّم

المصدر : الباحثون 28 - تشرين الأول 2009


الإبتساماتإخفاء